Thursday 12 July 2007

السمك..السمك..السمك


أسماك فضية صغيرة

محمد المخزنجى

لم يخبر أحداً بما هو مقبل عليه ، إنه يغوص على مسئوليته هذه المرة ، بعيداً عن مهمات غواصة الأبحاث ذات الحوائط الزجاجية الكاشفة التى تتبع المعهد الذى ينتمى إليه ، وبعيداً عن الغطس العادى الذى يمارسه كهواية ، وهو يغوص الآن بلا بذلة مطاطية ولا قناع ولا أنبوب أوكسجين ، يغوص بأدوات أجداده البسيطة التى كانوا يستخدمونها فى استخراج اللؤلؤ ، قبل أن ينبثق النفط ، مجرد مشبك يغلق فتحتى الأنف ، وجسد يخبئ شهقة عميقة من هواء الدنيا يتزود بها فى رحلته تحت الماء ، ثم يطلقها زفيراً مدبراً إلى أقصى حدود التدبير حتى تنتهى الغطسة . لم يضف شيئاً غير نظارة بسيطة ، مما يستخدمه الأطفال وهواة الغوص اليسير ، تجلو له المنظر تحت الماء ، ولأنه توقع أن يكون مجال الرؤية معتماً بفعل غطاء آلاف آلاف الأسماك الميتة الطافية على السطح ، فقد تزود بكشاف قوى الإضاءة يعمل تحت الماء .
«يا خليج .. يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى» ردد شطرة الشعر البعيدة ، من القصيدة التى تناءت فى ذاكرته حتى ظن أنه نسيها للشاعر الذى لم يحب شاعراً مثله . وأخذ يتلمس مقاطع القصيدة بلا صوت وهو يمسح ببصره «جونة الخليج» واربداد الأفق وراءها .. أين ساحة المياه الشفيفة ، الساجية ، التى كانت تريح الأبصار وتهدهد النفوس ، أين تناغم شهبة الرمال وفيروزية الماء وزرقة السماء الخفيفة القريبة من الروح ؟ لم يبصر غير رمادية حاملات الطائرات والبوارج الغريبة التى تحتشد فى قوس الأفق ، تحت سماء مثل رصاص مصهور ، سحب بصره وئيداً ليمسح بالأسى غطاء الأسماك الكميتة التى باتت تغطى مياه الجونة كلها ، موات مقبض ومفزع ، كارثة تتكرر للعام الثالث بفداحة أكثر ، وهو لم يقتنع أبداً بما انتهت إليه التقارير التى زعمت تفسير أسبابها .
خطا بقدميه العاريتين مخوضاً فى مياه الساحل ، وكانت ساخنة ولزجة وسرعان ما صارت ساقاه محاطتين بغطاء من الأسماك الميتة . انحنى واغترف بين كفيه حفنة من هذه الأسماك ، قربها من وجههه ، وأدرك أنها جميعاً من أسماك الميد الصغيرة الرقيقية التى وضح أنها أكثر من تأثر بالجائحة . دائماً ما كان يحب هذه الأسماك البسيطة ، بغزارتها الخصبة ، وتعلقها بالضوء والهواء ، مما حتم عليها أن تعيش فى الطبقات القريبة من سطح مياه الخليج . وهى التكأئة نفسها التى بنوا عليها تفسير أسباب الكارثة . قالوا إنه «المد الأحمر» الناتج من تكاثر الهائمات النباتية ثنائية الهدبيات ذات اللون الأحمر ، بفعل ارتفاع حرارة الماء المفرط تحت شمس الخليج اللاهبة ، وهو ما يجعل المياه ضاربة إلى الحمرة ، ومشحونة بسموم ثنائية الهدبيات التى تميت الأسماك وتصيب البشر بالإسهال والشلل إن أكلوا من هذه الأسماك . لم يقنعه هذا التفسير ، ولم يكن لديه ما يقوله ، فى غيبة البراهين والقرائن .. العلمية ؟! .
أوغل فى المياه حتى وسطه ، وصار مرشوقاً فى غطاء الأسماك الميتة التى أكد قربها من بصره أنها بالفعل من أسماك الميد . شعر بسخونة الماء تصعد على صدره نحو رقبته ، وفكر فى تهافت «التقرير العلمى» الذى شارك فيه «الخبراء الأجانب» فسخونة الماء المعتادة ، والخليج لم يكف عن التلظى بشمس الصيف الحارقة منذ عشرات ومئات السنين ، ولم يظهر الوباء البحرى على هذا النحو أبداً . هناك سبب آخر ، ردد ذلك فى داخله وهو يخرج يديه من تحت الماء ليحكم المشبك حول منخاريه ونظارة الماء حول عينيه . وكانت حقول الميد الميت على سطح الخليج ، ورمادية حاملات الطائرات والبوارج المحتشدة على قوس الأفق ، هى آخر ما رآه قبل أن يغطس .
كانت عتمة ، ولم ير أى ميل إلى الحمرة فى مساقط الضوء المتسلل من الفرج الضئيلة بين تجمعات الأسماك الميتة على السطح . وعندما أشعل ضوء الكشاف لم يجد للماء خضرة ولا زرقة ، بل اعتكاراً رمادياً جعل المرئيات فى مجال بصره وكأنها تظهر عبر زجاج ردىء الشفافية ، لكنه بخبرة الباحث الميدانى المخضرم فى مياه الخليج كان يستطيع أن يحدد ما يراه أمامه : هياج من الأسماك الصغيرة وسط مياه تتقلب فيها جزيئات دقيقة من نفايات رمادية تجعل الماء يبدو كما لو كان يغلى برغم برودته النسبية بعيداً عن السطح . وبالتحديق ملياً فى هذا الهياج ، اكتشف أن هذه الأسماك الصغيرة المضطرمة لم تكن سوى أسماك الميد وهى تهاجم بعضها بعضا فى سعار هو أبعد ما يكون عن السلوك المعتاد لهذه الأسماك الصغيرة الوديعة ، كانت فى حالة افتراس عشوائي متبادل . والأغرب أن حشوداً من هذه الأسماك كانت تنفق من تلقاء نفسها ، ربما بفعل القضمات التى كانت تمتلئ بها فتموت بموازاة موت الأسماك المقضومة .
وبينما كان ينفث آخر زفرة مما اختزنه صدره من هواء ، امتلأت مساحة الماء أمام بصره بفقاعات غيمت الرؤية ، وأحس بارتعاب أن آلاف الكلابات المنمنمة الحادة تمزق ما يستره ، وتنهش جلده العارى .

No comments: