لكي تكتمل الدائرة فلابد أن يأتي وليد وقصته التي كتبها عن نفسه.
أبدأ بنبذة عن علاقتي بوليد، كما قلت فقد قابلته في 2006 حيث شكل لي منبعا للحقد. أتذكر كتابته الأولى "بطلت" و"المكونات أوراق نقدية" ذلك الجو النفسي الذي يشدك للعمل. ذلك التركيب البنائي المحكم. ثم وصل إعجابي لقمته مع "نعم كل الوقت" لأنني استخدمت نفس التكنيك، ولكن أبدا لم أصل لتلك الروعة. وعلى خلاف العادة صرنا أصدقاء، وعلى خلاف العادة صار ذلك الحقد – الإعجاب منبعا للتنافس الشريف ومحاولة للإجادة.
لا أريد أن أدخل في التفاصيل الآن. أدعكم مع العمل
(1)
يتسلل الوعي إلى عقلي فأتأفف..أتكاسل عن فتح العينين فتحاصرني سواد
الذكريات .. أتململ ، أصرف ذهني إلى النوم فيتسلل من جفوني كعادته الدائمة ، أدع عيني تعترف بموت يومي السابق ، وأستقبل ضوء يوم آخر كئيب يكوي الضوء جفوني فأتحمل عله يزيل بعض الجروح ، أنتزع لفافة تبغ وأشعلها ، أتمسك بالدخان بعض الوقت ثم أطرده من صدري يداعبني الأمل في أن يحمل معه بعض الوعي فأعود إلى النوم، أنظر إلى بعض الشعيرات المتفرقة على صدري فأبتسم لتحايل مضي عليه أربعة أعوام كل صباح ، أملأ عيني بالقلادة على صدري.. أتمثل دائريتها المبتورة.. أقبض عليها ..أحاول أن أنزعها.. أقذف بها بعيدا.. أطؤها بقدمي ..ولكني أعلم أني لن أفعل فأحتويها بكفي مدفوع بحنان العجز.. فأكرهها.
(2)
باسما يفتح عينيه ، ينهض عن الفراش بخفة جسد لم يبلى ، يطل من النافذة ليملأ عينية بضياء يوم جديد ، بنظرته يعود إلى الفراش فيفتقد جدته ، يخرج إلى الفناء ليجدها وقد جلست على الأرض وسط الدجاج ، فيعلم أنها قد انتهت من إطعامهم للتو، يطارد أثناء اتجاهه إليها دجاجة شاردة عن صويحباتها ، فتنهاه جدته برفق باسم ، يكمل خطواته إليها في خفة ، ليرتمي على حجرها فتلقاه بيديها تحمل بها بعض ثقل جسده الصغير الذي لم يعد جسدها الهرم يتحمل وطأته يتجه بعينيه إلى السماء ، تؤذيهما الضياء فيغلقهما ، تتأمل ملامح وجهه ، شفتيه وأنفه وحاجبيه اللواتي حملهن عن أمه ابنتها ، تتململ فينظر إليها في سرعة: إلى أين ؟
تبتسم لذكاء صغيرها وتتمتم بصوتها الدافئ:
إلى الحقل-
سآتي معك -
ستلتزم الهدوء ؟-
نعم-
لن تطارد أبا قردان ؟-
نعم-
لن تطأ البرسيم ؟-
نعم .. نعم .. نعم -
يقولها في ضجر ، فتبتسم لعلمها بأنه لن يلتزم بأي مما وعد تنزله برفق من على العربة الخشبية ، يجيل بصره في الأخضر اللانهائي الذي يعشقه ثم يتوقف بنظراته عند أشجار الجوافة الممتدة على حافة الترعة ، فلا يفوتها مغزى نظراته ، لطالما تعجبت لصغيرها لم لا يطلب كعادة الأطفال فيما يطاق وما لا يطاق ، تتجه دون أن تسأله إلى احدي الشجيرات فتهزها بعض الوقت حتى تتساقط بعض حبات الجوافة ، فيندفع في خفة يلتقطها قبل أن تتدحرج إلى الترعة ، يجلس تحت الشجيرة وكأنه سيلتزم بوعد الهدوء ، فتنصرف هي لأعمالها باسمة لخبثه الطفولي.. تعود بعد قليل وقد تعلقت بيدها دمية بلاستيكية خضراء ، تراكم عليها الطين والتراب وتمزقت إحدى ساقيها ، تنظفها بالمياه في اعتناء ، مجيلة البصر حولها تبحث عنه فتجده وقد انهمك في مطاردة أبا قردان وسط البرسيم ، فتبتسم لمخالفته ما اتفقا عليه تناديه فيأتي في سرعة ، تضع الدمية في يده في صمت فيتأملها في صمت لا تظهر على وجهه ملامح الفرحة كعادة الأطفال ، فلا تتعجب فهي تعلم أن صغيرها ليس كبقية الصغار سويعات قليلة وتعود إليه ، فتجده وقد نام في ظل الشجرة ، تتشبث كفه الصغيرة بدميته الخضراء.
(3)
أنهي في سرعة طقوس التطهر من أدران الليلة الماضية، أمام المرآة أتأمل وجهي الشاحب ، أتحسس لحيتي النابتة ، ذبول العينين، شحوب الوجه، اصفرار الأسنان فأشعر بلا انتماء نافر تجاه جسدي، أسوى خصلات شعري المبتلة ، لا يلهيني الشرود عن إخفاء ندبة الصدغ الأيمن بخصلات الشعر التي تنسدل على كتفي ، تهبط عيني من المرآة إلى صورة المبكى، أتأمل عينيها اللامعتين فأتعجب، قسوة تلك العينين أين كانت حينها، أتأمل الابتسامة ، أبحث عن طابع الرقة المرتسم بغامزة خدها الأيسر.. أفتقدها .. فأفزع .. ما ألبث أن أتذكر أني افتقدتها منذ أعوام فأعيد الفزع إلى حصالة مشاعري، عيني تصطنع اللاتعمد كي تركن بنظرتي إلى الدبلة الفضية الملتصقة بالركن العلوي الأيمن للإطار ، أسحب نفسا عميقا من لفافة تبغي وأزفره في وجهها فيرتجع الدخان إلى وجهي، أحتج به لتبرير الدموع التي ملأت عيني.
من تحت زجاج التسريحة تظهر تلك الصورة المتهالكة والتي يحفظها لوح الزجاج من التفتت ، أراني فيها جسدا ضئيلا نشيطا ، فأفعل ما نويته عشرات المرات على مدار خمس سنوات .. ألتقط فتات الصورة في حرص غادرني منذ زمن لا أتذكره.
(4)
بجوارهم تجلس أمها وجدته ، تثرثران ببعض الحديث الذي يتلهى هو عنه بمتابعة التلفاز ، فمنذ أن غزت ملامح الرجولة الوليدة وجهه ، أصبح يأبى عليها الانهماك في استماع أحاديث النساء ، بعض الوقت وينتزع نفسه من شروده أمام شاشة التلفاز
إلى أين ؟-
لا شيء سأصعد إلى السطح-
يفيق من شروده على تردد صوت أنفاسها من خلف أذنيه فيبتسم لها في شرود.. لحظات وما تلبث أحاديثهما أن تتصل.. بعض الوقت وتتراجع كثافة الكلمات حتى تصل إلى بعض الغمغمات يطلقانها من وقت لآخر..يتصلب جسده من الجلسة التي ارتكنا اليها بعد أن طال بهما الحديث، فيتململ ممنيا نفسه بأن تذهب وتدعه لشروده يتأمل وجهها ، عينيها المتسعتين ، خصلات الشعر الأسود التي تعابث عينيها بتحريض من الهواء ، تدفعه رجولته حديثة العهد إلى الهبوط بنظراته على صدرها الممتلئ فيتذكر أنه لم يكن هكذا منذ عهد قريب ، يواصل فضول الاستكشاف فيهبط بنظراته إلى أردافها.
أين ذهبت انقطع حديثك؟-
- لا شيء.. أريد أن أفعل شيئا وأخشى غضبك
ماذا ؟.. لن أغضب -
يتجه بكفه بتردد تائه في أرض جديدة ..تنظر إلى الأرض في خجل وتدعه يعبث بجسدها وكأنه لا يخصها أو يعنيها في شيء.. يمسك بكفها وينتحي بها جانبا لا تلحظهما فيه عين.. ينزع عنها ملابسها قطعة بعد قطعة حتى تتعرى تماما فيأخذه الوجوم أمام تضاريس جسدها التي يستنكرها بعض الوقت.. يتآلف معها بعض الوقت.. يحبها بعض الوقت.. تتجه هي بنظراتها إلى اللاشىء وكأنها تنتمي إلى مكان آخر. يطيل العبث وما يلبث أن ينتزع يده في فزع مستنكر.. تنظر إليه ثم إلى نصفها السفلي.. تنزع نظرتها في خجل.. وتعود بهما إلى اللاشىء.
(5)
وسط المدينة يدع خطواته تأخذه إلى اللامكان، متجنبا الشوارع المزدحمة يسير، إلى البيوت والحوانيت والمقاهي القديمة ينجذب، يشعر بألفة سنوات بعيدة تشده إلى أستوديو صغير بالطابق الأرضي لمبني ضئيل.. متهالك.. مدخل المكان يهبط إليه بثلاث درجات سلمية متآكلة..تجتذب عينيه بعض الصور المعروضة والتي تنتمي إلى زمن كان.. ينظر إلى الصورة التي تضمها كفه في رفق فيشعر بها كائنة في هذا الزمن.. ولكنها ما زالت تنتمي إلي.. هكذا يغمغم لنفسه.. ينظر إليه ملتصقا بمقعده كأنه لم يغادره منذ وقت بعيد.. يقلب في جريدته التي لن يتعجب اذا اكتشف انتمائها لسنوات مضت
لو سمحت ..-
ينزع عينيه من جريدته..يتجه برأسه إلي فلا أشعر بنظراته فأرجح أنها لم تعد موجودة من الأساس.. يهز رأسه هزة المستفسر..فأنظر إلى صورتي في تردد ثم إلى وجهه .. أرفع صورتي حتى تصبح في نطاق نظراته اللامحسوسة وأغمغم: أريد نسخة منها..
ينهض عن مقعدة و يلتقط الصورة من كفي بلا مبالاة آلمتني.. يغيب بصومعته بعض الوقت .. ثم يعود بلا أي تعبيرات على وجهه ..ويغمغم أثناء عودته إلى الالتصاق بمقعده:
النيجاتيف متهالك..
وليد خطاب
-
شيء من النقد:
بداية تقليدية..
العنوان:
رائع..فكرة العنوان الذي يحتمل أكثر من معنى.خلايا الذاكرة"القشرة الرمادية في المخ"، وكذلك المعنى الآخر "خلايا" = وحدات منفصلة-متصلة.
"رمادية" = الحالة الرمادية.
عناصر الكتابة:
الزمن:
استخدم اسلوب الفلاش باك، في المشاهد 2 و 4 مع تغيير ضمير الخطاب من المتكلم للراوي العليم، لأنه يتحدث عن زمن مضى ينظر إليه من أعلى.
هو يبدأ أحداث يوم عادي في 1و3و5 يتقاطع معها الذكريات، التي تسير للأمام أيضا مشهد2 الطفولة. مشهد 4 المراهقة.
الإيقاع:
هو أهم عناصر هذا العمل. يفرض عليك العمل جوه بعدة طرق من أهمها الوصف البطيء لكل حركة.
أختيار أفعال الاكتئاب والبطء (يتسلل - أتأفف- أتكاسل- أتململ- تعترف بموت) كل هذا من أول ثلاث سطور.
ولكن هنا لي ملاحظة.. المشهد رقم 2 بما إنه يتحدث عن الماضي السعيد فقد غير في الأفعال والصور ليناسب الجو، وكان من الضروري أن يحاول تكرار ذلك في المشهد 4 بما إنه يتكلم عن مرحلة سعيدة أخرى، ولكن نجد هنا(فيتململ ممنيا نفسه بأن تذهب وتدعه لشروده) أنا مقتنع بالجملة كمقدمة لما يليها، ولكن مشهد الحب الحزين بعدها لا يتوائم مع تركيب القصة ، فضلا عن إنه لا يتوائم مع نفسية مراهق.
الحكاية:
في غاية البساطة والروعة. شخص يريد عودة الماضي عن طريق إعادة طبع صورته القديمة، لكنه – بالطبع- لا يستطيع فقد ذهب الماضي.
فقط هو لكي يفعل ذلك يعبر على كل الأماكن المؤلمة في الذكريات، يستحضر المشاهد السعيدة فقط كي يزيد من ألمه.
يحكي قصة خطوبة فاشلة(بالنظر للدبلة الفضية المثبتة في العلبة) تتداخل مع نفسه عن طريق نثرها عبر القصة، وفي النهاية يريد أن يسترجع هذه الذكري – ذاته القديمة عن طريق تجميع الصورة.
مناطق مضيئة:
القلادة ذات الدائرية المبتورة:
هي أحدى القلادات التي يقتسمها المخطوبين معا وهي مفتاح مشهد البداية.ها هو صباح جديد كئيب بدونها. ثم يلعب على القلادة التي تمثل الأثر الباقي منها
"أتمثل دائريتها المبتورة..أقبض عليها..أحاول أن أنزعها..أقذف بها بعيدا..أطؤها بقدمي..ولكني أعلم أني لن أفعل، فأحتويها بكفي مدفوع بحنان العجز..فأكرها"..هذا شعر!!.
تقطيع الكلام، الذي يوازي الحدث، يعمل نوع من الإيقاع.ثم المفردات"أتمثل"بمعنى أستحضر ولكن بقوة أكبر فنحن نتحدث عن محسوس."المبتورة" مبني للمجهول، ثم استخدام أقوى الأفعال"يبتر"الذي يستخدم مع الأعضاء البشرية بدلا من "يقطع"المستخدم مع الأشياء."أحاول" كل ما جاء بعدها هي مشاهد في مخيلة البطل لا تحدث في الواقع، تكتمل مع "ولكني"القاطعة، ثم يكمل المشهد الحقيقي بـ"فأحتويها"ويضع السكين مزدوج النصل في آخر الفقرة"بحنان العجز..فأكرهها".أليست هذه هي طعنة"الدونج"التي حدثونا عنها في الموسيقى؟
مرة ثانية:
"أتمثل"هو فعل الاستحضار الهاديء.هو يستعيد ذكري ما، والتذكر يكون هاديء.ثم يصعد لذروة الإيقاع في الجمل التالية حتى"أطؤها بقدمي"ثم يكتمل" الكريشندو""الإيقاع المتصاعد"بالطعنة المذكورة من قبل.
مثال آخر: "التي يستنكرها بعض الوقت..يتآلف معها بعض الوقت..يحبها بعض الوقت"في جمل بسيطة مكثفة ينتقل بإحساس البطل من حالة لحالة.
"فمنذ أن غزت ملامح الرجولة الوليدة وجهه، أصبح يأبى عليها الانهماك في استماع أحاديث النساء" أعجبني هذا التحليل النفسي لمشاعر المراهق.
مثال أخير: مشهد النهاية كله من أفضل مشاهد القصة فاختيار الجو الذي يستحضر الماضي كان موفقا للغاية
"تجتذب عينيه بعض الصور المعروضة والتي تنتمي إلى زمن كان"
مثال بعد الأخير: طعنة النهاية التي تمثل قمة العمل" النيجاتيف متهالك.."
نقاط مظلمة:
1- تكررار الا عبر القصة" لا انتماء – لا مكان – اللامحسوسة - اللاشيء"
2-البطل المدخن:تم توظيفه في القصة بشكل أكثر من جيد، وكان يمكن حتى الزيادة على(السيجارة على الريق)المقيتة؛في أول مشهد، ولكن تكرار البطل المدخن في أعمال وليد الأخرى أمر تم التنبيه إليه وتخلص منه بعد ذلك.
3-الطفل المختلف:أيضا كان من الممكن استغلالها في باقي المشاهد و لكن لم ألحظ ذلك الاختلاف في باقي العمل.
2 comments:
مش عارفة اقول ايه
بس العمل رغم انه مقاطع الا انى غرفضت انشغل عن اى جزء فيه
وده يحسب للكاتب
هو انا مش بعرف انقد القصة كويس
اعتقد ذائقتى كقارىء بتحيط راييى اكثر من كناقد
وعشان كده اقدر اقولك ان العمل كويس جدا بلا تفصيل
كمان نقدك للعمل هو كمان ينول اعجابى
افرح بقى
هههههههه
لا بجد
مجهود منك ومن الكاتب لازم نقول عليه شكرا
عايزة اقول حاجه بس مش عارفه اقول ايه
اقول ايه.....؟؟؟؟؟
بص مش عارفه عندي استعداد اقرا قصصكوا كل شوية و مش هازهق
النقد بتاعك كمان عاجبني
مستنيه اكتر
Post a Comment